د.
شاكر النابلسي1
قلنا في الأسبوع الماضي، هنا في "الوطن"، من أن المفكر التنويري والشاعر
والأكاديمي التونسي/ الفرنسي المتميز عبدالوهاب المؤدب، قال في كتابه
"مواعظ مضادة"، عن ظاهرة الفتاوى التكفيرية الدينية، التي انتشرت في
الثمانينات وما بعدها من القرن الماضي في العالم العربي والإسلامي، وخاصة
بعد حرب الخليج الثانية 1991، وكذلك بعد كارثة 11 سبتمبر 2001، بأنها "مرض
التكفير" في الإسلام. وهو مرض شاع – وما زال - في الأوساط الأصولية داخل
العالم الإسلامي، وخارجة على المستوى الشخصي والمستوى العام، ووصل إلى حد
التنابز بالألقاب، وهو ما نهى عنه خادم الحرمين الشريفين في خطابه السنوي،
يوم الأحد الماضي 7/3/2010 أمام مجلس الشورى، وطالب المتنابزين بتقوى
الله، تأكيداً لقوله تعالى ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا
تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾(الحجرات:11).
وقال
المؤدب أيضاً، في كتابه "مواعظ مضادة"، إن الشيء المرعب هو أن ينتشر هذا
"المرض" في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، وكذلك في الغرب. وفي هذا
المعنى يعتبر المؤدب أن دعاة الإسلامي السياسي، كجماعة الإخوان المسلمين،
هم على رأس من نشروا "مرض التكفير"، وجاءوا بنموذج "للهذيان المعادي
للغرب"، عبر خطاب بدائي ساذج. وهو ما عبّر عنه سمو الأمير نايف بن
عبدالعزيز، في جريدة "السياسة" الكويتية (نوفمبر 2002) من "أن الإخوان
المسلمين هم سبب مشاكلنا كلها.. وأن الإخوان دمروا العالم العربي.. إنهم
سبب المشاكل في عالمنا العربي، وربما عالمنا الإسلامي". ومحاربة فيروس
"مرض التكفير"، هو أولى الخطوات التنويرية للخروج من اللعنة التي تحدث
عنها المؤدب في كتابه "الخروج من اللعنة Sortir de la malediction"
2
لقد نتجت أوهام كثيرة، نتيجة لانتشار "مرض التكفير" في العالمين العربي
والإسلامي. ورصد المؤدب هذه الأوهام في كتابه "أوهام الإسلام السياسي،
2001"، حيث قال: "الوضعية الراهنة للعالم العربي هي الأسوأ في تاريخه. رغم
عدد سكانه واتساع أرضه، وتعدد دوله وتنوعها، ورغم اقتسامه لغة مشتركة
تختزن ما لا يُحصى من الكنوز. وأخيراً رغم تاريخ مجيد، والعديد من
الامتيازات والإيجابيات، وهبات الطبيعة والتاريخ، أصبح من الأكيد أن وضعية
هذه البلدان اليوم، هي من ضمن الوضعيات التي لا يُحسَدُ عليها في عصرنا.
فهناك طغيان يسود معظم العواصم العربية، ومعه بؤس وجهل مُتوائمان.
والأرقام الملخصة لهذه الوضعية، هي الواردة في التحقيقات والتقارير التي
قامت بها مؤسسات دولية". ويخلص المؤدب إلى القول، إن الإسلام ليس أصل
الداء وليس أصل المصيبة، وإنما المصيبة هي ما فعله بعض المسلمين أنفسهم
بالإسلام. وأن الدواء يكمن فينا نحن المسلمين أنفسنا، عملاً بالحكمة:
"وداوني بالتي كانت هي الداء". والعمل على استنفاد سلبية الشقاء الذي نحن
فيه. وكما قال الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا، فإن "عافية الوطن" تكمن
في حرية التفكير، واحترام الرأي والرأي الآخر. وهذا هو الدواء الناجع
لدائنا الآن.
3
وفي كتاب المؤدب الجديد "الخروج من اللعنة، 2008" ، يرشدنا المؤدب إلى
دليل آخر من أدلة التنوير للخروج من اللعنة، وهو دليل وضع الأمة أمام
خيارين، لا ثالث لهما: إما، سلوك طريق الحضارة والتقدم. وإما الانكفاء على
أنفسنا، والغرق حتى الموت والاندثار في أحضان مرض عبّر عنه المؤدب بـ
"الورم السرطاني"، وهو التخلف عن العالم، والخوف من العالم، علماً بأننا
جزء – لا سبيل إلى إنكاره - من هذا العالم، كما أكد خادم الحرمين
الشريفين، في خطابه أمام مجلس الشورى بالأمس القريب. ولا سبيل إلى التقدم
إلا باستئصال هذا "الورم السرطاني".
4
ويشير المؤدب إلى دليل آخر من أدلته التنويرية، وهو عدم "تسييس الدين"،
والمحافظة على قداسة الدين بعيداً عن الفساد والنجاسة السياسية. ومن هنا،
فإن المؤدب يرفض "ولاية الفقيه". ويعتبر أن ظهور الخميني في إيران 1979
والحكم بشرعية "ولاية الفقيه"، التي بعثها الخميني من زوايا التاريخ، لكي
يحكم بها إيران، قد أعاد إيران عدة قرون إلى الوراء. كما كانت الخمينية
سبباً في حرب الخليج الأولى 1980-1988 التي دمرت اقتصاد الدول العربية
والإسلامية. كذلك، كان لحكم "ولاية الفقيه" في إيران، الإساءة لسمعة
الإسلام الذي أغرقته الخمينية حتى أذنيه في وحول السياسة، وتراجع دور
إيران الحضاري في العالم، ومعاداة معظم دول العالم لحكم الملالي. كذلك،
فإن من أسوأ الكوارث التي سسببتها الخمينية، اشتداد الصراع بين السنة
والشيعة، واشتداد ساعد الأحزاب الدينية السياسية في مصر، والجزائر،
والمغرب، والعراق، وتونس، ولبنان، والأردن، وبعض دول الخليج، وغزة. مما
زاد من نشاط المنظمات الدينية الإرهابية في معظم أنحاء العالم. ومن هنا،
فإن الخطر الأعظم يتأتى من رجال الدين المُسيّسين، الذين يتحولون إلى
ديكتاتوريين استبداديين، يريدون التحكُّم بكل شيء.
5
أما الدليل التنويري الآخر، الذي يريدنا المؤدب أن نأخذ به، ونمسك بيده،
لنصل إلى شاطئ أمان المعاصرة، فهو القراءة الانفتاحية الحديثة للنصوص
التراثية. فعلوم الاجتماع، والتاريخ، واللغويات Linguistics ومناهج النقد
الحديث المختلفة، وغيرها من العلوم المهمة لتفسير النصوص، لم تكن متوفرة
في القرون الماضية، كما هي الآن. لذلك لم يُستعن بها في الماضي في قراءة
النصوص التراثية. وبذا، تمَّت قراءة وتفسير النصوص التراثية تفسيراً
حرفياً، وهو ما كان متوفراً – دون غيره – في الماضي. أما اليوم، ونحن نعيش
في قلب ثورة علمية ومعلوماتية، فقد توفرت لنا كل هذه العلوم والأدوات،
لإعادة قراءة نصوص التراث على ضوء هذه العلوم، لكي نفهم تراثنا بشكل عصري
أفضل، ولكن بشرط أن يتمَّ ذلك من داخل التراث، كما يدعو المؤدب إلى ذلك،
وكما يفعل هو نفسه، في مختلف كتبه وأبحاثه. فلقد خلَّف لنا كل عصر قشوره،
وعلينا أن نُركِّز على الجوهر الأول، وندع تلك القشور جانباً.
*نقلا عن "الوطن" السعودية